الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (نسخة منقحة)
.فَصْلٌ: [الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ مِنَ الْخُشُوعِ]: أَمَّا حِفْظُ الْحُرْمَةِ عِنْدَ الْمُكَاشَفَةِ فَهُوَ ضَبْطُ النَّفْسِ بِالذُّلِّ وَالِانْكِسَارِ عَنِ الْبَسْطِ وَالْإِدْلَالِ، الَّذِي تَقْتَضِيهِ الْمُكَاشَفَةُ، فَإِنَّ الْمُكَاشَفَةَ تُوجِبُ بَسْطًا، وَيُخَافُ مِنْهُ شَطْحٌ، إِنْ لَمْ يَصْحَبْهُ خُشُوعٌ يَحْفَظُ الْحُرْمَةَ. وَأَمَّا تَصْفِيَةُ الْوَقْتِ مِنْ مُرَاءَاةِ الْخَلْقِ فَلَا يُرِيدُ بِهِ أَنْ يُصَفِّيَ وَقْتَهُ عَنِ الرِّيَاءِ، فَإِنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الدَّرَجَةِ أَجَلُّ قَدْرًا وَأَعْلَى مِنْ ذَلِكَ. وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنْ يُخْفِيَ أَحْوَالَهُ عَنِ الْخَلْقِ جُهْدَهُ، كَخُشُوعِهِ وَذُلِّهِ وَانْكِسَارِهِ، لِئَلَّا يَرَاهَا النَّاسُ فَيُعْجِبُهُ اطِّلَاعُهُمْ عَلَيْهَا، وَرُؤْيَتُهُمْ لَهَا، فَيُفْسِدُ عَلَيْهِ وَقْتَهُ وَقَلْبَهُ وَحَالَهُ مَعَ اللَّهِ، وَكَمْ قَدِ اقْتَطَعَ فِي هَذِهِ الْمَفَازَةِ مِنْ سَالِكٍ؟ وَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ، فَلَا شَيْءَ أَنْفَعُ لِلصَّادِقِ مِنَ التَّحَقُّقِ بِالْمَسْكَنَةِ وَالْفَاقَةِ وَالذُّلِّ، وَأَنَّهُ لَا شَيْءَ، وَأَنَّهُ مِمَّنْ لَمْ يَصِحَّ لَهُ بَعْدُ الْإِسْلَامُ حَتَّى يَدَّعِيَ الشَّرَفَ فِيهِ. وَلَقَدْ شَاهَدْتُ مِنْ شَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ- قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ- مِنْ ذَلِكَ أَمْرًا لَمْ أُشَاهِدْهُ مِنْ غَيْرِهِ، وَكَانَ يَقُولُ كَثِيرًا: مَا لِي شَيْءٌ، وَلَا مِنِّي شَيْءٌ، وَلَا فِيَّ شَيْءٌ، وَكَانَ كَثِيرًا مَا يَتَمَثَّلُ بِهَذَا الْبَيْتِ: وَكَانَ إِذَا أُثْنِي عَلَيْهِ فِي وَجْهِهِ يَقُولُ: وَاللَّهِ إِنِّي إِلَى الْآنِ أُجَدِّدُ إِسْلَامِي كُلَّ وَقْتٍ، وَمَا أَسْلَمْتُ بَعْدُ إِسْلَامًا جَيِّدًا. وَبَعَثَ إِلَيَّ فِي آخِرِ عُمُرِهِ قَاعِدَةً فِي التَّفْسِيرِ بِخَطِّهِ، وَعَلَى ظَهْرِهَا أَبْيَاتٌ بِخَطِّهِ مِنْ نَظْمِهِ: وَأَمَّا تَجْرِيدُ رُؤْيَةِ الْفَضْلِ فَهُوَ أَنْ لَا يَرَى الْفَضْلَ وَالْإِحْسَانَ إِلَّا مِنَ اللَّهِ، فَهُوَ الْمَانُّ بِهِ بِلَا سَبَبٍ مِنْكَ، وَلَا شَفِيعٍ لَكَ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ بِالشَّفَاعَةِ، وَلَا وَسِيلَةٍ سَبَقَتْ مِنْكَ تَوَسَّلْتَ بِهَا إِلَى إِحْسَانِهِ. وَالتَّجْرِيدُ هُوَ تَخْلِيصُ شُهُودِ الْفَضْلِ لِوَلِيِّهِ، حَتَّى لَا يَنْسُبَهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَإِلَّا فَهُوَ فِي نَفْسِهِ مُجَرَّدٌ عَنِ النِّسْبَةِ إِلَى سِوَاهُ، وَإِنَّمَا الشَّأْنُ فِي تَجْرِيدِهِ فِي الشُّهُودِ، لِيُطَابِقَ الشُّهُودُ الْحَقَّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. .فَصْلٌ: [انْعِدَامُ الْخُشُوعِ فِي الصَّلَاةِ]: قِيلَ: أَمَّا الِاعْتِدَادُ بِهَا فِي الثَّوَابِ فَلَا يُعْتَدُّ لَهُ فِيهَا إِلَّا بِمَا عَقِلَ فِيهِ مِنْهَا، وَخَشَعَ فِيهِ لِرَبِّهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: لَيْسَ لَكَ مِنْ صَلَاتِكَ إِلَّا مَا عَقِلْتَ مِنْهَا. وَفِي الْمُسْنَدِ مَرْفُوعًا إِنَّ الْعَبْدَ لَيُصَلِّي الصَّلَاةَ، وَلَمْ يُكْتَبْ لَهُ إِلَّا نِصْفُهَا، أَوْ ثُلُثُهَا، أَوْ رُبُعُهَا- حَتَّى بَلَغَ عُشْرَهَا. وَقَدْ عَلَّقَ اللَّهُ فَلَاحَ الْمُصَلِّينَ بِالْخُشُوعِ فِي صَلَاتِهِمْ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَخْشَعْ فَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْفَلَاحِ، وَلَوِ اعْتَدَّ لَهُ بِهَا ثَوَابًا لَكَانَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ. وَأَمَّا الِاعْتِدَادُ بِهَا فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا، وَسُقُوطِ الْقَضَاءِ فَإِنْ غَلَبَ عَلَيْهَا الْخُشُوعُ وَتَعَقَّلَهَا اعْتُدَّ بِهَا إِجْمَاعًا، وَكَانَتِ السُّنَنُ، وَالْأَذْكَارُ عَقِيبَهَا جَوَابِرَ وَمُكَمِّلَاتٍ لِنَقْصِهَا. وَإِنْ غَلَبَ عَلَيْهِ عَدَمُ الْخُشُوعِ فِيهَا، وَعَدَمُ تَعَقُّلِهَا، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ إِعَادَتِهَا، فَأَوْجَبَهَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ، وَأَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ فِي إِحْيَائِهِ، لَا فِي وَسِيطِهِ وَبَسِيطِهِ. وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهَا صَلَاةٌ لَا يُثَابُ عَلَيْهَا، وَلَمْ يُضْمَنْ لَهُ فِيهَا الْفَلَاحُ، فَلَمْ تَبْرَأْ ذِمَّتُهُ مِنْهَا، وَيَسْقُطُ الْقَضَاءُ عَنْهُ كَصَلَاةِ الْمُرَائِي. قَالُوا: وَلِأَنَّ الْخُشُوعَ وَالْعَقْلَ رُوحُ الصَّلَاةِ وَمَقْصُودُهَا وَلُبُّهَا، فَكَيْفَ يُعْتَدُّ بِصَلَاةٍ فَقَدَتْ رُوحَهَا وَلُبَّهَا، وَبَقِيَتْ صُورَتُهَا وَظَاهِرُهَا؟. قَالُوا: وَلَوْ تَرَكَ الْعَبْدُ وَاجِبًا مِنْ وَاجِبَاتِهَا عَمْدًا لَأَبْطَلَهَا تَرْكُهُ. وَغَايَتُهُ: أَنْ يَكُونَ بَعْضًا مِنْ أَبْعَاضِهَا بِمَنْزِلَةِ فَوَاتِ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَاءِ الْعَبْدِ الْمُعْتَقِ فِي الْكَفَّارَةِ، فَكَيْفَ إِذَا عَدِمَتْ رُوحَهَا، وَلُبَّهَا وَمَقْصُودَهَا؟ وَصَارَتْ بِمَنْزِلَةِ الْعَبْدِ الْمَيِّتِ، إِذَا لَمْ يُعْتَدَّ بِالْعَبْدِ الْمَقْطُوعِ الْيَدِ، يَعْتِقُهُ تَقَرُّبًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي كَفَّارَةٍ وَاجِبَةٍ، فَكَيْفَ يُعْتَدُّ بِالْعَبْدِ الْمَيِّتِ. وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: الصَّلَاةُ كَجَارِيَةٍ تُهْدَى إِلَى مَلِكٍ مِنَ الْمُلُوكِ، فَمَا الظَّنُّ بِمَنْ يَهْدِي إِلَيْهِ جَارِيَةً شَلَّاءَ، أَوْ عَوْرَاءَ، أَوْ عَمْيَاءَ، أَوْ مَقْطُوعَةَ الْيَدِ وَالرِّجْلِ، أَوْ مَرِيضَةً، أَوْ دَمِيمَةً، أَوْ قَبِيحَةً، حَتَّى يُهْدِيَ إِلَيْهِ جَارِيَةً مَيِّتَةً بِلَا رُوحٍ وَجَارِيَةً قَبِيحَةً، فَكَيْفَ بِالصَّلَاةِ الَّتِي يُهْدِيهَا الْعَبْدُ، وَيَتَقَرَّبُ بِهَا إِلَى رَبِّهِ تَعَالَى؟ وَاللَّهُ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَلَيْسَ مِنَ الْعَمَلِ الطَّيِّبِ صَلَاةٌ لَا رُوحَ فِيهَا، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْعِتْقِ الطَّيِّبِ عِتْقُ عَبْدٍ لَا رُوحَ فِيهِ. قَالُوا: وَتَعْطِيلُ الْقَلْبِ عَنْ عُبُودِيَّةِ الْحُضُورِ وَالْخُشُوعِ: تَعْطِيلٌ لِمَلِكِ الْأَعْضَاءِ عَنْ عُبُودِيَّتِهِ، وَعَزْلٌ لَهُ عَنْهَا، فَمَاذَا تُغْنِي طَاعَةُ الرَّعِيَّةِ وَعُبُودِيَّتُهَا، وَقَدْ عُزِلَ مِلْكُهَا وَتَعَطَّلَ؟. قَالُوا: وَالْأَعْضَاءُ تَابِعَةٌ لِلْقَلْبِ، تَصْلُحُ بِصَلَاحِهِ، وَتَفْسُدُ بِفَسَادِهِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ قَائِمًا بِعُبُودِيَّتِهِ، فَالْأَعْضَاءُ أَوْلَى أَنْ لَا يُعْتَدَّ بِعُبُودِيَّتِهَا، وَإِذَا فَسَدَتْ عُبُودِيَّتُهُ- بِالْغَفْلَةِ وَالْوَسْوَاسِ- فَأَنَّى تَصِحُّ عُبُودِيَّةُ رَعِيَّتِهِ وَجُنْدِهِ وَمَادَّتُهُمْ مِنْهُ، وَعَنْ أَمْرِهِ يُصْدِرُونَ، وَبِهِ يَأْتَمِرُونَ؟. قَالُوا: وَفِي التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ، مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَجِيبُ الدُّعَاءَ مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ» وَهَذَا إِمَّا خَاصٌّ بِدُعَاءِ الْعِبَادَةِ، وَإِمَّا عَامٌّ لَهُ وَلِدُعَاءِ الْمَسْأَلَةِ، وَإِمَّا خَاصٌّ بِدُعَاءِ الْمَسْأَلَةِ الَّذِي هُوَ أَبْعَدُ، فَهُوَ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ دُعَاءَ الْعِبَادَةِ الَّذِي هُوَ خَاصٌّ حَقُّهُ مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ. قَالُوا: وَلِأَنَّ عُبُودِيَّةَ مَنْ غَلَبَتْ عَلَيْهِ الْغَفْلَةُ وَالسَّهْوُ فِي الْغَالِبِ لَا تَكُونُ مُصَاحِبَةً لِلْإِخْلَاصِ، فَإِنَّ الْإِخْلَاصَ قَصْدُ الْمَعْبُودِ وَحْدَهُ بِالتَّعَبُّدِ. وَالْغَافِلُ لَا قَصْدَ لَهُ، فَلَا عُبُودِيَّةَ لَهُ. قَالُوا: وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} وَلَيْسَ السَّهْوُ عَنْهَا تَرْكَهَا، وَإِلَّا لَمْ يَكُونُوا مُصَلِّينَ، وَإِنَّمَا هُوَ السَّهْوُ عَنْ وَاجِبِهَا إِمَّا عَنِ الْوَقْتِ كَمَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُ، وَإِمَّا عَنِ الْحُضُورِ وَالْخُشُوعِ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ يَعُمُّ النَّوْعَيْنِ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَثْبَتَ لَهُمْ صَلَاةً، وَوَصَفَهُمْ بِالسَّهْوِ عَنْهَا فَهُوَ السَّهْوُ عَنْ وَقْتِهَا الْوَاجِبِ، أَوْ عَنْ إِخْلَاصِهَا وَحُضُورِهَا الْوَاجِبِ، وَلِذَلِكَ وَصَفَهُمْ بِالرِّيَاءِ، وَلَوْ كَانَ السَّهْوُ سَهْوَ تَرْكٍ لَمَا كَانَ هُنَاكَ رِيَاءٌ. قَالُوا: وَلَوْ قَدَّرْنَا أَنَّهُ السَّهْوُ عَنْ وَاجِبٍ فَقَطْ، فَهُوَ تَنْبِيهٌ عَلَى التَّوَعُّدِ بِالْوَيْلِ عَلَى سَهْوِ الْإِخْلَاصِ وَالْحُضُورِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْوَقْتَ يَسْقُطُ فِي حَالِ الْعُذْرِ، وَيَنْتَقِلُ إِلَى بَدَلِهِ، وَالْإِخْلَاصَ وَالْحُضُورَ لَا يَسْقُطُ بِحَالٍ، وَلَا بَدَلَ لَهُ. الثَّانِي: أَنَّ وَاجِبَ الْوَقْتِ يَسْقُطُ لِتَكْمِيلِ مَصْلَحَةِ الْحُضُورِ، فَيَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ لِلشُّغْلِ الْمَانِعِ مِنْ فِعْلِ إِحْدَاهُمَا فِي وَقْتِهَا بِلَا قَلْبٍ وَلَا حُضُورٍ، كَالْمُسَافِرِ، وَالْمَرِيضِ، وَذِي الشُّغْلِ الَّذِي يَحْتَاجُ مَعَهُ إِلَى الْجَمْعِ، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ. فَبِالْجُمْلَةِ: مَصْلَحَةُ الْإِخْلَاصِ وَالْحُضُورِ، وَجَمْعِيَّةُ الْقَلْبِ عَلَى اللَّهِ فِي الصَّلَاةِ أَرْجَحُ فِي نَظَرِ الشَّارِعِ مِنْ مَصْلَحَةِ سَائِرِ وَاجِبَاتِهَا، فَكَيْفَ يُظَنُّ بِهِ أَنَّهُ يُبْطِلُهَا بِتَرْكِ تَكْبِيرَةٍ وَاحِدَةٍ، أَوِ اعْتِدَالٍ فِي رُكْنٍ، أَوْ تَرْكِ حَرْفٍ، أَوْ شَدَّةٍ مِنَ الْقُرْآنِ، أَوْ تَرْكِ تَسْبِيحَةٍ أَوْ قَوْلِ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ أَوْ قَوْلِ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ أَوْ ذِكْرِ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ، ثُمَّ يُصَحِّحُهَا مَعَ فَوْتِ لُبِّهَا، وَمَقْصُودِهَا الْأَعْظَمِ، وَرُوحِهَا وَسِرِّهَا. فَهَذَا مَا احْتَجَّتْ بِهِ هَذِهِ الطَّائِفَةُ، وَهِيَ حُجَجٌ- كَمَا تَرَاهَا- قُوَّةً وَظُهُورًا. قَالَ أَصْحَابُ الْقَوْلِ الْآخَرِ: قَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ «إِذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ، وَلَهُ ضُرَاطٌ حَتَّى لَا يَسْمَعَ التَّأْذِينَ، فَإِذَا قُضِيَ التَّأْذِينُ أَقْبَلَ، فَإِذَا ثُوِّبَ بِالصَّلَاةِ أَدْبَرَ، فَإِذَا قُضِيَ التَّثْوِيبُ أَقْبَلَ حَتَّى يَخْطِرَ بَيْنَ الْمَرْءِ وَبَيْنَ نَفْسِهِ، فَيُذَكِّرُهُ مَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ، وَيَقُولُ: اذْكُرْ كَذَا، اذْكُرْ كَذَا، لِمَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ، حَتَّى يَظَلَّ الرَّجُلُ لَا يَدْرِي كَمْ صَلَّى، فَإِذَا وَجَدَ ذَلِكَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ». قَالُوا: فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ الَّتِي قَدْ أَغْفَلَهُ الشَّيْطَانُ فِيهَا، حَتَّى لَمْ يَدْرِ كَمْ صَلَّى بِأَنْ يَسْجُدَ سَجْدَتَيِ السَّهْوِ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِإِعَادَتِهَا، وَلَوْ كَانَتْ بَاطِلَةً- كَمَا زَعَمْتُمْ- لَأَمَرَهُ بِإِعَادَتِهَا. قَالُوا: وَهَذَا هُوَ السِّرُّ فِي سَجْدَتَيِ السَّهْوِ، تَرْغِيمًا لِلشَّيْطَانِ فِي وَسْوَسَتِهِ لِلْعَبْدِ، وَكَوْنِهِ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحُضُورِ فِي الصَّلَاةِ. وَلِهَذَا سَمَّاهُمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْمُرْغِمَتَيْنِ»، وَأَمَرَ مَنْ سَهَا بِهِمَا وَلَمْ يُفَصِّلْ فِي سَهْوِهِ الَّذِي صَدَرَ عَنْهُ مُوجِبَ السُّجُودِ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَالْغَالِبِ وَالْمَغْلُوبِ، وَقَالَ لِكُلِّ سَهْوٍ سَجْدَتَانِ وَلَمْ يَسْتَثْنِ مِنْ ذَلِكَ السَّهْوِ الْغَالِبِ، مَعَ أَنَّهُ الْغَالِبُ. قَالُوا: وَلِأَنَّ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ عَلَى الْأَفْعَالِ الظَّاهِرَةِ، وَأَمَّا حَقَائِقُ الْإِيمَانِ الْبَاطِنَةُ فَتِلْكَ عَلَيْهَا شَرَائِعُ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، فَلِلَّهِ تَعَالَى حُكْمَانِ: حُكْمٌ فِي الدُّنْيَا عَلَى الشَّرَائِعِ الظَّاهِرَةِ وَأَعْمَالِ الْجَوَارِحِ، وَحُكْمٌ فِي الْآخِرَةِ عَلَى الظَّوَاهِرِ وَالْبَوَاطِنِ، وَلِهَذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْبَلُ عَلَانِيَةَ الْمُنَافِقِينَ، وَيَكِلُ أَسْرَارَهُمْ إِلَى اللَّهِ فَيُنَاكِحُونَ، وَيَرِثُونَ وَيُورَثُونَ، وَيُعْتَدُّ بِصَلَاتِهِمْ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا، فَلَا يَكُونُ حُكْمُهُمْ حُكْمَ تَارِكِ الصَّلَاةِ، إِذْ قَدْ أَتَوْا بِصُورَتِهَا الظَّاهِرَةِ، وَأَحْكَامُ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ لَيْسَتْ إِلَى الْبَشَرِ، بَلْ إِلَى اللَّهِ، وَاللَّهُ يَتَوَلَّاهُ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ. نَعَمْ لَا يَحْصُلُ مَقْصُودُ هَذِهِ الصَّلَاةِ مِنْ ثَوَابِ اللَّهِ عَاجِلًا وَلَا آجِلًا، فَإِنَّ لِلصَّلَاةِ مَزِيدَ ثَوَابٍ عَاجِلٍ فِي الْقَلْبِ مِنْ قُوَّةِ إِيمَانِهِ، وَاسْتِنَارَتِهِ، وَانْشِرَاحِهِ وَانْفِسَاحِهِ وَوُجُودِ حَلَاوَةِ الْعِبَادَةِ، وَالْفَرَحِ وَالسُّرُورِ، وَاللَّذَّةِ الَّتِي تَحْصُلُ لِمَنِ اجْتَمَعَ هَمُّهُ وَقَلْبُهُ عَلَى اللَّهِ، وَحَضَرَ قَلْبُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، كَمَا يَحْصُلُ لِمَنْ قَرَّبَهُ السُّلْطَانُ مِنْهُ، وَخَصَّهُ بِمُنَاجَاتِهِ وَالْإِقْبَالِ عَلَيْهِ وَاللَّهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ. وَكَذَلِكَ مَا يَحْصُلُ لِهَذَا مِنَ الدَّرَجَاتِ الْعُلَى فِي الْآخِرَةِ، وَمُرَافَقَةِ الْمُقَرَّبِينَ. كُلُّ هَذَا يَفُوتُهُ بِفَوَاتِ الْحُضُورِ وَالْخُضُوعِ، وَإِنَّ الرَّجُلَيْنِ لَيَكُونُ مُقَامُهُمَا فِي الصَّفِّ وَاحِدًا، وَبَيْنَ صَلَاتَيْهِمَا كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَلَيْسَ كَلَامُنَا فِي هَذَا كُلِّهِ. فَإِنْ أَرَدْتُمْ وُجُوبَ الْإِعَادَةِ لَتَحْصُلَ هَذِهِ الثَّمَرَاتُ وَالْفَوَائِدُ فَذَاكَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ أَنْ يُحَصِّلَهَا وَإِنْ شَاءَ أَنْ يُفَوِّتَهَا عَلَى نَفْسِهِ، وَإِنْ أَرَدْتُمْ بِوُجُوبِهَا أَنَّا نُلْزِمُهُ بِهَا وَنُعَاقِبُهُ عَلَى تَرْكِهَا، وَنُرَتِّبُ عَلَيْهِ أَحْكَامَ تَارِكِ الصَّلَاةِ فَلَا. وَهَذَا الْقَوْلُ الثَّانِي أَرْجَحُ الْقَوْلَيْنِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. .فَصْلٌ: مَنْزِلَةُ الْإِخْبَاتِ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} ثُمَّ كَشَفَ عَنْ مَعْنَاهُمْ فَقَالَ: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} وَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}. وَالْخَبْتُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ: الْمَكَانُ الْمُنْخَفِضُ مِنَ الْأَرْضِ. وَبِهِ فَسَّرَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَقَتَادَةُ لَفَظَ الْمُخْبِتَيْنِ وَقَالَا: هُمُ الْمُتَوَاضِعُونَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْمُخْبِتُ: الْمُطْمَئِنُّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ: وَالْخَبْتُ: الْمَكَانُ الْمُطَمْئِنُّ مِنَ الْأَرْضِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: الْخَاشِعُونَ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: الْمُصَلُّونَ الْمُخْلِصُونَ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: هُمُ الرَّقِيقَةُ قُلُوبُهُمْ. وَقَالَ عَمْرُو بْنُ أَوْسٍ: هُمُ الَّذِينَ لَا يَظْلِمُونَ، وَإِذَا ظَلَمُوا لَمْ يَنْتَصِرُوا. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ تَدُورُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: التَّوَاضُعِ، وَالسُّكُونِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلِذَلِكَ عُدِّي بِإِلَى تَضْمِينًا لِمَعْنَى الطُّمَأْنِينَةِ، وَالْإِنَابَةِ وَالسُّكُونِ إِلَى اللَّهِ. قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ: هُوَ مِنْ أَوَّلِ مَقَامَاتِ الطُّمَأْنِينَةِ. كَالسَّكِينَةِ، وَالْيَقِينِ، وَالثِّقَةِ بِاللَّهِ وَنَحْوِهَا. فَالْإِخْبَاتُ مُقَدِّمَتُهَا وَمَبْدَؤُهَا. قَالَ: وَهُوَ وُرُودُ الْمَأْمَنِ مِنَ الرُّجُوعِ وَالتَّرَدُّدِ. لَمَّا كَانَ الْإِخْبَاتُ أَوَّلَ مَقَامٍ يَتَخَلَّصُ فِيهِ السَّالِكُ مِنَ التَّرَدُّدِ- الَّذِي هُوَ نَوْعُ غَفْلَةٍ وَإِعْرَاضٍ- وَالسَّالِكُ مُسَافِرٌ إِلَى رَبِّهِ، سَائِرٌ إِلَيْهِ عَلَى مَدَى أَنْفَاسِهِ. لَا يَنْتَهِي مَسِيرُهُ إِلَيْهِ مَا دَامَ نَفَسُهُ يَصْحَبُهُ- شَبَّهَ حُصُولَ الْإِخْبَاتِ لَهُ بِالْمَاءِ الْعَذْبِ الَّذِي يَرُدُّهُ الْمُسَافِرُ عَلَى ظَمَأٍ وَحَاجَةٍ فِي أَوَّلِ مَنَاهِلِهِ. فَيَرْوِيهِ مَوْرِدَهُ، وَيُزِيلُ عَنْهُ خَوَاطِرَ تَرَدُّدَهُ فِي إِتْمَامِ سَفَرِهِ، أَوْ رُجُوعِهِ إِلَى وَطَنِهِ لِمَشَقَّةِ السَّفَرِ. فَإِذَا وَرَدَ ذَلِكَ الْمَاءَ زَالَ عَنْهُ التَّرَدُّدُ وَخَاطِرُ الرُّجُوعِ. كَذَلِكَ السَّالِكُ إِذَا وَرَدَ مَوْرِدَ الْإِخْبَاتِ تَخَلَّصَ مِنَ التَّرَدُّدِ وَالرُّجُوعِ، وَنَزَلَ أَوَّلَ مَنَازِلِ الطُّمَأْنِينَةِ بِسِفْرِهِ، وَجَدَّ فِي السَّيْرِ. قَالَ: وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ. الدَّرَجَةُ الْأُولَى: أَنْ تَسْتَغْرِقَ الْعِصْمَةُ الشَّهْوَةَ وَتَسْتَدْرِكَ الْإِرَادَةُ الْغَفْلَةَ. وَيَسْتَهْوِي الطَّلَبُ السَّلْوَةَ. الْمُرِيدُ السَّالِكُ: تَعْرِضُ لَهُ غَفْلَةٌ عَنْ مُرَادِهِ، تُضْعِفُ إِرَادَتَهُ. وَشَهْوَةٌ تَعَارُضُ إِرَادَتَهُ فَتَصُدُّهُ عَنْ مُرَادِهِ. وَرُجُوعٌ عَنْ مُرَادِهِ، وَسَلْوَةٌ عَنْهُ. فَهَذِهِ الدَّرَجَةُ مِنَ الْإِخْبَاتِ تَحْمِيهِ عَنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ. فَتَسْتَغْرِقُ عِصْمَتُهُ شَهْوَتَهُ. وَالْعِصْمَةُ هِيَ الْحِمَايَةُ وَالْحِفْظُ. وَالشَّهْوَةُ الْمَيْلُ إِلَى مَطَالِبِ النَّفْسِ. وَالِاسْتِغْرَاقُ لِلشَّيْءِ الِاحْتِوَاءُ عَلَيْهِ وَالْإِحَاطَةُ بِهِ. يَقُولُ: تَغْلِبُ عِصْمَتُهُ شَهْوَتَهُ وَتَقْهَرُهَا، وَتَسْتَوْفِي جَمِيعَ أَجْزَائِهَا. فَإِذَا اسْتَوْفَتِ الْعِصْمَةُ جَمِيعَ أَجْزَاءِ الشَّهْوَةِ فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى إِخْبَاتِهِ وَدُخُولِهِ فِي مَقَامِ الطُّمَأْنِينَةِ، وَنُزُولِهِ أَوَّلَ مَنَازِلِهَا، وَخَلَاصِهِ فِي هَذَا الْمَنْزِلِ مِنْ تَرَدُّدِ الْخَوَاطِرِ بَيْنَ الْإِقْبَالِ وَالْإِدْبَارِ، وَالرُّجُوعِ وَالْعَزْمِ، إِلَى الِاسْتِقَامَةِ وَالْعَزْمِ الْجَازِمِ، وَالْجِدِّ فِي السَّيْرِ. وَذَلِكَ عَلَامَةُ السَّكِينَةِ. وَتَسْتَدْرِكُ إِرَادَتُهُ غَفْلَتَهُ. وَالْإِرَادَةُ عِنْدَ الْقَوْمِ هِيَ اسْمٌ لِأَوَّلِ مَنَازِلِ الْقَاصِدِينَ إِلَى اللَّهِ. وَالْمُرِيدُ هُوَ الَّذِي خَرَجَ مِنْ وَطَنِ طَبْعِهِ وَنَفْسِهِ. وَأَخَذَ فِي السَّفَرِ إِلَى اللَّهِ، وَالدَّارِ الْآخِرَةِ، فَإِذَا نَزَلَ فِي مَنْزِلِ الْإِخْبَاتِ أَحَاطَتْ إِرَادَتُهُ بِغَفْلَتِهِ. فَاسْتَدْرَكَهَا، وَاسْتَدْرَكَ بِهَا فَارِطَهَا. وَأَمَّا اسْتِهْوَاءُ طَلَبِهِ لِسَلْوَتِهِ فَهُوَ قَهْرُ مَحَبَّتِهِ لِسَلْوَتِهِ، وَغَلَبَتُهَا لَهُ. بِحَيْثُ تَهْوِي السَّلْوَةُ وَتَسْقُطُ، كَالَّذِي يَهْوِي فِي بِئْرٍ. وَهَذَا عَلَامَةُ الْمَحَبَّةِ الصَّادِقَةِ أَنْ تَقْهَرَ فِيهِ وَارِدَ السَّلْوَةِ، وَتَدْفِنَهَا فِي هُوَّةٍ لَا تَحْيَا بَعْدَهَا أَبَدًا. فَالْحَاصِلُ: أَنَّ عِصْمَتَهُ وَحِمَايَتَهُ تَقْهَرُ شَهْوَتَهُ. وَإِرَادَتُهُ تَقْهَرُ غَفْلَتَهُ. وَمَحَبَّتُهُ تَقْهَرُ سَلْوَتَهُ. قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ لَا يَنْقَضُّ إِرَادَتَهُ سَبَبٌ. وَلَا يُوحِشُ قَلْبَهُ عَارِضٌ. وَلَا يَقْطَعُ عَلَيْهِ الطَّرِيقَ فِتْنَةٌ. هَذِهِ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ أُخْرَى. تَعْرِضُ لِصَادِقِ الْإِرَادَةِ: سَبَبٌ يَعْرِضُ لَهُ يَنْقُضُ عَزْمَهُ وَإِرَادَتَهُ. وَوَحْشَةٌ تَعْرِضُ لَهُ فِي طَرِيقِ طَلَبِهِ، وَلَا سِيَّمَا عِنْدَ تَفَرُّدِهِ. وَفِتْنَةٌ تَخْرُجُ عَلَيْهِ، تَقْصِدُ قَطْعَ الطَّرِيقِ عَلَيْهِ. فَإِذَا تَمَكَّنَ مِنْ مَنْزِلِ الْإِخْبَاتِ انْدَفَعَتْ عَنْهُ هَذِهِ الْآفَاتُ؛ لِأَنَّ إِرَادَتَهُ إِذَا قَوِيَتْ، وَجَدَّ بِهِ الْمَسِيرُ لَمْ يَنْقُضْهَا سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ التَّخَلُّفِ. وَالنَّقْضُ هُوَ الرُّجُوعُ عَنْ إِرَادَتِهِ، وَالْعُدُولُ عَنْ جِهَةِ سَفَرِهِ. وَلَا يُوحِشُ أُنْسَهُ بِاللَّهِ فِي طَرِيقِهِ عَارِضٌ مِنَ الْعَوَارِضِ الشَّوَاغِلِ لِلْقَلْبِ، وَالْجَوَاذِبِ لَهُ عَمَّنْ هُوَ مُتَوَجِّهٌ إِلَيْهِ. وَالْعَارِضُ هُوَ الْمُخَالِفُ. كَالشَّيْءِ الَّذِي يَعْتَرِضُكَ فِي طَرِيقِكَ. فَيَجِيءُ فِي عَرْضِهَا. وَمِنْ أَقْوَى هَذِهِ الْعَوَارِضِ عَارِضُ وَحْشَةِ التَّفَرُّدِ. فَلَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ، كَمَا قَالَ بَعْضُ الصَّادِقِينَ: انْفِرَادُكَ فِي طَرِيقِ طَلَبِكَ دَلِيلٌ عَلَى صِدْقِ الطَّلَبِ. وَقَالَ آخَرُ: لَا تَسْتَوْحِشْ فِي طَرِيقِكَ مِنْ قِلَّةِ السَّالِكِينَ. وَلَا تَغْتَرَّ بِكَثْرَةِ الْهَالِكِينَ. وَأَمَّا الْفِتْنَةُ الَّتِي تَقْطَعُ عَلَيْهِ الطَّرِيقَ فَهِيَ الْوَارِدَاتُ الَّتِي تَرِدُ عَلَى الْقُلُوبِ، تَمْنَعُهَا مِنْ مُطَالَعَةِ الْحَقِّ وَقَصْدِهِ. فَإِذَا تَمَكَّنَ مِنْ مَنْزِلِ الْإِخْبَاتِ وَصِحَّةِ الْإِرَادَةِ وَالطَّلَبِ لَمْ يَطْمَعْ فِيهِ عَارِضُ الْفِتْنَةِ. وَهَذِهِ الْعَزَائِمُ لَا تَصِحُّ إِلَّا لِمَنْ أَشْرَقَ عَلَى قَلْبِهِ أَنْوَارُ آثَارِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ. وَتَجَلَّتْ عَلَيْهِ مَعَانِيهَا. وَكَافَحَ قَلْبَهُ حَقِيقَةُ الْيَقِينِ بِهَا. وَقَدْ قِيلَ: مَنْ أَخَذَ الْعِلْمَ مِنْ عَيْنِ الْعِلْمِ ثَبَتَ. وَمَنْ أَخَذَهُ مِنْ جَرَيَانِهِ أَخَذَتْهُ أَمْوَاجُ الشُّبَهِ. وَمَالَتْ بِهِ الْعِبَارَاتُ، وَاخْتَلَفَتْ عَلَيْهِ الْأَقْوَالُ. قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَسْتَوِيَ عِنْدَهُ الْمَدْحُ وَالذَّمُّ، وَتَدُومَ لَائِمَتُهُ لِنَفْسِهِ. وَيَعْمَى عَنْ نُقْصَانِ الْخَلْقِ عَنْ دَرَجَتِهِ. اعْلَمْ أَنَّهُ مَتَى اسْتَقَرَّتْ قَدَمُ الْعَبْدِ فِي مَنْزِلَةِ الْإِخْبَاتِ وَتَمَكَّنَ فِيهَا ارْتَفَعَتْ هِمَّتُهُ، وَعَلَتْ نَفْسُهُ عَنْ خَطْفَاتِ الْمَدْحِ وَالذَّمِّ. فَلَا يَفْرَحُ بِمَدْحِ النَّاسِ. وَلَا يَحْزَنُ لِذَمِّهِمْ. هَذَا وَصْفُ مَنْ خَرَجَ عَنْ حَظِّ نَفْسِهِ، وَتَأَهَّلَ لِلْفَنَاءِ فِي عُبُودِيَّةِ رَبِّهِ. وَصَارَ قَلْبُهُ مُطَّرِحًا لِأَشِعَّةِ أَنْوَارِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ. وَبَاشَرَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ وَالْيَقِينِ قَلْبُهُ. وَالْوُقُوفُ عِنْدَ مَدْحِ النَّاسِ وَذَمِّهِمْ عَلَامَةُ انْقِطَاعِ الْقَلْبِ، وَخُلُوِّهِ مِنَ اللَّهِ، وَأَنَّهُ لَمْ تُبَاشِرْهُ رُوحُ مَحَبَّتِهِ وَمَعْرِفَتِهِ، وَلَمْ يَذُقْ حَلَاوَةَ التَّعَلُّقِ بِهِ وَالطُّمَأْنِينَةِ إِلَيْهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَأَنْ تَدُومَ لَائِمَتُهُ لِنَفْسِهِ فَهُوَ أَنَّ صَاحِبُ هَذَا الْمَنْزِلِ لَا يَرْضَى عَنْ نَفْسِهِ، وَهُوَ مُبْغِضٌ لَهَا مُتَمَنٍّ لِمُفَارَقَتِهَا. وَالْمُرَادُ بِالنَّفْسِ، عِنْدَ الْقَوْمِ: مَا كَانَ مَعْلُومًا مِنْ أَوْصَافِ الْعَبْدِ، مَذْمُومًا مِنْ أَخْلَاقِهِ وَأَفْعَالِهِ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ كَسْبِيًّا، أَوْ خَلْقِيًّا. فَهُوَ شَدِيدُ اللَّائِمَةِ لَهَا. وَهَذَا أَحَدُ التَّأْوِيلَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةُ: تَلُومُ عَلَى الْخَيْرِ وَالشَّرِّ. وَلَا تَصْبِرُ عَلَى السَّرَّاءِ. وَلَا عَلَى الضَّرَّاءِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: اللَّوَّامَةُ هِيَ الْفَاجِرَةُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: تَنْدَمُ عَلَى مَا فَاتَ، وَتَقُولُ: لَوْ فَعَلْتُ؟ وَلَوْ لَمْ أَفْعَلْ؟. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: لَيْسَ مِنْ نَفْسٍ بَرَّةٍ وَلَا فَاجِرَةٍ إِلَّا وَهِيَ تَلُومُ نَفْسَهَا إِنْ كَانَتْ عَمِلَتْ خَيْرًا قَالَتْ: هَلَّا زِدْتُ؟ وَإِنْ عَمِلَتْ شَرًّا قَالَتْ: لَيْتَنِي لَمْ أَفْعَلْ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هِيَ النَّفْسُ الْمُؤْمِنَةُ. إِنَّ الْمُؤْمِنَ- وَاللَّهِ- مَا تَرَاهُ إِلَّا يَلُومُ نَفْسَهُ: مَا أَرَدْتِ بِكَلِمَةِ كَذَا؟ مَا أَرَدْتِ بِأَكْلَةِ كَذَا؟ مَا أَرَدْتِ بِكَذَا؟ مَا أَرَدْتِ بِكَذَا؟ وَإِنَّ الْفَاجِرَ يَمْضِي قُدُمًا قُدُمًا، وَلَا يُحَاسِبُ نَفْسَهُ وَلَا يُعَاتِبُهَا. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هِيَ النَّفْسُ الْكَافِرَةُ، تَلُومُ نَفْسَهَا فِي الْآخِرَةِ عَلَى مَا فَرَّطَتْ فِي أَمْرِ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا. وَالْقَصْدُ: أَنَّ مَنْ بَذَلَ نَفْسَهُ لِلَّهِ بِصِدْقٍ كَرِهَ بَقَاءَهُ مَعَهَا؛ لِأَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتَقَبَّلَهَا مَنْ بُذِلَتْ لَهُ. وَلِأَنَّهُ قَدْ قَرَّبَهَا لَهُ قُرْبَانًا. وَمَنْ قَرَّبَ قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْهُ لَيْسَ كَمَنْ رُدَّ عَلَيْهِ قُرْبَانُهُ. فَبَقَاءُ نَفْسِهِ مَعَهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُتَقَبَّلْ قُرْبَانُهُ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ مِنْ قَوَاعِدِ الْقَوْمِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا بَيْنَهُمْ، الَّتِي اتَّفَقَتْ كَلِمَةُ أَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ، وَمُحِقِّهِمْ وَمُبْطِلِهِمْ عَلَيْهَا أَنَّ النَّفْسَ حِجَابٌ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ اللَّهِ، وَأَنَّهُ لَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ حَتَّى يَقْطَعَ هَذَا الْحِجَابَ. كَمَا قَالَ أَبُو يَزِيدٍ: رَأَيْتُ رَبَّ الْعِزَّةِ فِي الْمَنَامِ. فَقُلْتُ: يَا رَبِّ، كَيْفَ الطَّرِيقُ إِلَيْكَ؟ فَقَالَ: خَلِّ نَفْسَكَ وَتَعَالَ. فَالنَّفْسُ جَبَلٌ عَظِيمٌ شَاقٌّ فِي طَرِيقِ السَّيْرِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَكُلُّ سَائِرٍ لَا طَرِيقَ لَهُ إِلَّا عَلَى ذَلِكَ الْجَبَلِ. فَلَابُدَّ أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَيْهِ، وَلَكِنَّ مِنْهُمْ مَنْ هُوَ شَاقٌّ عَلَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ سَهْلٌ عَلَيْهِ. وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ. وَفِي ذَلِكَ الْجَبَلِ أَوْدِيَةٌ وَشُعُوبٌ، وَعَقَبَاتٌ وَوُهُودٌ، وَشَوْكٌ وَعَوْسَجٌ، وَعَلِيقٌ وَشَبْرَقٌ، وَلُصُوصٌ يَقْتَطِعُونَ الطَّرِيقَ عَلَى السَّائِرِينَ. وَلَا سِيَّمَا أَهْلَ اللَّيْلِ الْمُدْلِجِينَ. فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ عُدَدُ الْإِيمَانِ، وَمَصَابِيحُ الْيَقِينِ تَتَّقِدُ بِزَيْتِ الْإِخْبَاتِ، وَإِلَّا تَعَلَّقَتْ بِهِمْ تِلْكَ الْمَوَانِعُ. وَتَشَبَّثَتْ بِهِمْ تِلْكَ الْقَوَاطِعُ وَحَالَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ السَّيْرِ. فَإِنَّ أَكْثَرَ السَّائِرِينَ فِيهِ رَجَعُوا عَلَى أَعْقَابِهِمْ لَمَّا عَجَزُوا عَنْ قَطْعِهِ وَاقْتِحَامِ عَقَبَاتِهِ. وَالشَّيْطَانُ عَلَى قُلَّةِ ذَلِكَ الْجَبَلِ يُحَذِّرُ النَّاسَ مِنْ صُعُودِهِ وَارْتِفَاعِهِ، وَيُخَوِّفُهُمْ مِنْهُ. فَيَتَّفِقُ مَشَقَّةُ الصُّعُودِ وَقُعُودُ ذَلِكَ الْمُخَوِّفِ عَلَى قُلَّتِهِ، وَضَعْفُ عَزِيمَةِ السَّائِرِ وَنِيَّتِهِ. فَيَتَوَلَّدُ مِنْ ذَلِكَ الِانْقِطَاعُ وَالرُّجُوعُ. وَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ. وَكُلَّمَا رَقَى السَّائِرُ فِي ذَلِكَ الْجَبَلِ اشْتَدَّ بِهِ صِيَاحُ الْقَاطِعِ، وَتَحْذِيرُهُ وَتَخْوِيفُهُ، فَإِذَا قَطَعَهُ وَبَلَغَ قُلَّتَهُ: انْقَلَبَتْ تِلْكَ الْمَخَاوِفُ كُلُّهُنَّ أَمَانًا. وَحِينَئِذٍ يَسْهُلُ السَّيْرُ، وَتَزُولُ عَنْهُ عَوَارِضُ الطَّرِيقِ، وَمَشَقَّةُ عَقَبَاتِهَا، وَيَرَى طَرِيقًا وَاسِعًا آمِنًا. يُفْضِي بِهِ إِلَى الْمَنَازِلِ وَالْمَنَاهِلِ. وَعَلَيْهِ الْأَعْلَامُ. وَفِيهِ الْإِقَامَاتُ، قَدْ أُعِدَّتْ لِرَكْبِ الرَّحْمَنِ. فَبَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ السَّعَادَةِ وَالْفَلَاحِ قُوَّةُ عَزِيمَةٍ، وَصَبْرُ سَاعَةٍ، وَشَجَاعَةُ نَفْسٍ، وَثَبَاتُ قَلْبٍ. وَالْفَضْلُ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ. وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.
|